«إن الفلسفة وحدها هي التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين، وإنما تقاس حضارة الأمة وثقافتها بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها، ولذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هي أن يمنحه فلاسفة حقيقيين».
- رينيه ديكارت، أبو الفلسفة الحديثة
ظهر قبل أيام الإعلامي تامر أمين بتصريحات مثيرة للجدل يتحدث فيها عن عدم أهمية دراسة بعض المواد الأدبية في المرحلة الثانوية، ومن بينها كانت الفلسفة، معتبراً أنها لا تسهم في تقديم كوادر مناسبة لمتطلبات سوق العمل الحديث.
جاء ذلك تزامناً مع قرار وزارة التربية والتعليم المصرية استئصال دراسة الفلسفة من مناهج نظام الثانوية العامة المصري، بجانب علم النفس والتاريخ والجغرافيا وعدد من المواد الأخرى، بحسب ما نشرته جريدة الأهرام الحكومية عبر بوابتها الإلكترونية.
ربما عبر تامر أمين عن منطق وفلسفة القرار الحكومي المفاجئ، ألا وهو أن هذه المواد الأدبية لم تعد مفيدة في تلبية احتياجات السوق، السوق الذي يعمل وفق آلية العرض والطلب والاستهلاك المتوحش. ولكن يبقى السؤال، هل يجب أن نحتكم لمنطق السوق من أجل تحديد ماهية العلوم التي علينا دراستها، هل السوق هو المعيار الحقيقي لجدوى المعرفة، والأهم، هل الفلسفة مهمة أصلاً؟
ينتشر اعتقاد بين كثير من غير المتخصصين فحواه أن الفلسفة لم تعد مهمة لمسار المعرفة البشرية في العصر الحديث، حيث كانت كذلك في خلال العصور الغابرة، ولكن تقدم العلم التجريبي أغار على مكانة الفلسفة كأم للعلوم، ووضعها في موضع التراث الفكري للبشرية، وهو اعتقاد مؤسس أولاً وأخيراً على الجهل، الجهل بالعلم قبل أن يكون جهلاً بالفلسفة.
مرّ العلم التجريبي خلال رحلة صعوده الطويلة بكثير من المحطات الصعبة التي كادت تقضي عليه، ربما يعود أبرزها إلى مشكلة الاستقراء التي ظهرت على يد الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم خلال القرن الـ18، وهي المشكلة التي أدخلت المعرفة البشرية برمتها في نفق مظلم لم تكن لتخرج منه لولا وجود الفلسفة.
ذهب هيوم إلى أن آلية الاستقراء التي هي العمود الفقري للمعرفة التجريبية وأساسها النظري لا تتطابق مخرجاتها مع المنطق، وأنها أيضاً تحمل في طياتها تناقضات تجعلنا لا نثق في الاستنتاجات المبنية عليها.
كانت تلك النظرية بمثابة حاجزٍ وُضع أمام المعرفة التجريبية الناشئة حينها، كان من الضروري إزالته من أجل استمرار رحلة العلم، إذ إن العلم التجريبي مؤسس على الاستقراء.
هنا كان دور الفلسفة، وتحديداً الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أحد أهم الفلاسفة عبر تاريخ البشرية الذي قدم تحفته النقدية المكونة من ثلاثة أجزاء: نقد العقل المحض، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم، من أجل إنقاذ المعرفة البشرية أولاً، وإعادة الثقة إلى الاستنتاجات التي نستخرجها عن طريق الاستقراء، والتي هي بالطبع الاستنتاجات العلمية.
لم يقتصر دور الفلسفة على ذلك، فمع تطور المعارف البشرية، وظهور نظريات معرفية جديدة كان لها تأثير ثوري على مسار الحضارة، مثل النظرية الماركسية وعلم النفس التحليلي الذي أسسه سيجموند فرويد بدأت تظهر أصوات منادية لإضفاء الصفة العلمية التجريبية على تلك النظريات، وهو ما شكل خطراً جديداً على مسار المنهج العلمي، إذ لم تكن تلك النظريات تستوفي الشروط لتكون علمية بشكل كامل بالمعنى التجريبي للكلمة.
مجدداً كانت الفلسفة حاضرة، إذ لم يتوقف العلماء عند تلك المشكلة، على الرغم من تطور العلوم التجريبية بشكل كبير في تلك الحقبة، إذ ظهرت تلك المشكلات في بداية القرن الـ20، وهو القرن الذي أطلق عليه قرن العلم.
أخذ الفلاسفة زمام المبادرة فوراً، فلاسفة العلم على وجه الخصوص، وعلى رأسهم الفيلسوف النمساوي كارل بوبر الذي وضع حدوداً فاصلة لماهية العلم وشروطه عبر تحديد ما الذي قد يجعل استنتاجاً ما علمياً واستنتاجاً آخر غير علمي.
كان من بين أبرز هذه الشروط هو ما عُرف بالقابلية للتكذيب، أي وجود إمكانية لفحص استنتاج ما بطرق موضوعية يمكن أن ينتج عنها التأكد من خطأ هذا الاستنتاج، وإذا لم يكن هناك قابلية لتكذيب استنتاج ما، إذن فهذا الاستنتاج لا يمكن إضفاء عليه صفة الاستنتاج العلمي.
لتقوم الفلسفة من جديد بدورها المقدس في إعادة المعرفة البشرية إلى المسار الصحيح، منقيّة إياها من الشوائب الضارة والأفكار المغلوطة.
«الفلسفة لا يطلبها إلا الحر».
- أرسطوطاليس
لا عجب أن تصبح الفلسفة اليوم مسار نقد وسخرية من دعاة الاحتكام لمنطق السوق في التعامل مع الأولويات المعرفية والقيمية، فالسوق بات يحكم كل شيء في العالم بميكانيزمات حديدية هدفها إبقاء الإنسان داخل قيد شديد الإحكام يمنعه من الخلاص ولو على المستوى الذهني.
بداية من فرض عدد ساعات عمل معينة يبيعها الإنسان من حياته يومياً مقابل مبلغ مالي يعينه على تلبية احتياجاته الأساسية، وصولاً إلى توجيه اللوم نحو الإنسان نفسه إذا ما شعر بالإرهاق البدني والذهني من الضغط الشديد الذي يمارس عليه فقط ليستطيع البقاء على قيد الحياة، بدلاً من إلقاء اللوم على المنظومة المتوحشة التي حولت عبودية القرون المنصرمة إلى منظومة جديدة يكون فيها الإنسان عبداً بشكل غير مباشر.
هذا ما جاء به الفيلسوف الألماني كارل ماركس وأكمله من بعده تلامذته، حين فندوا المنظومة الرأسمالية الحديثة التي أوهمت الإنسان الذي عانى من العبودية قديماً أنه أخيراً أصبح يمتلك لجام حياته، أصبح حراً، إلا أن ذلك الاعتقاد لم يكن سوى القناع الذي أخفى منطق السوق الحقيقي، ألا وهو استغلال قلة قليلة من البشر للغالبية العظمى من أجل تحقيق الأرباح.
على الرغم من أن طموحات ماركس لم تتحقق بالشكل الذي كان يرجوه، لكن ذلك النقد العنيف لمنطق السوق ومنظومته طوال عقود، والتغييرات السياسية المتعددة التي طرأت على العالم نتيجة له، كانوا أسباباً رئيسية لتعديل كثير من القوانين والسياسات لصالح العمال، مثل نظم المعاشات والتأمينات والدعم الحكومي على السلع والخدمات.
كل تلك الإنجازات انتُزعت عنوة من أيدي المسيطرين على السوق، والمحددين لمنطقه الذي يخدم مصالحهم في المقام الأول.
هذا تحديداً ما يجعل الفلسفة بطبيعتها لا تتلاءم مع السوق واحتياجاته ومتطلباته، فالسوق الجشع يطلب إنساناً يؤمن أن العمل عبادة، إنساناً يرضى أن تسلب منه حياته دون مقاومة، أما الفلسفة فدوماً كانت مهمتها النقد والتفتيش وطرح الأسئلة، وحث الإنسان على التنقيب عن الأسباب والدوافع، وأن يحاول إيجاد حلول لمشكلاته، وألا يساق إلى الذبح كالشاة.
يمكن الآن أن نطرح سؤالاً جديداً، هل لأن دراسة الفلسفة والوعي بها تتعارض مع منطق السوق فإن ذلك يعني أن السوق لم يعد في احتياج لدارسي الفسلفة فعلاً؟ الإجابة هي لا.
ظهرت أخيراً عديد من التقارير التي تتحدث عن زيادة الطلب على دارسي الفلسفة خلال السنوات المقبلة بشكل لم يكن متوقعاً، وذلك بسبب التطور الكبير الذي طرأ على تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتي يتوقع لها أن تدخل في كل المجالات العملية خلال السنوات القليلة المقبلة.
وجد مطورو برمجيات الذكاء الاصطناعي أنفسهم أمام مشكلات حقيقية دفعتهم إلى إيقاف عديد من المشروعات بشكل كامل بسبب ما نتج من أفعال مثيرة للقلق من البرمجيات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، مثل التمييز العنصري ضد الأقليات العرقية والنساء وغيرها، وذلك بسبب طبيعة عمل الذكاء الاصطناعي المعتمد على التعلم الذاتي.
لذا لم يكن هناك مفر من إعادة طرح الأسئلة الفلسفية القديمة التي سألها الإنسان لنفسه أولاً، الأسئلة المعنية بمعايير الخير والشر والصواب والخطأ، وطرق الوصول إلى تلك المعايير أصلاً، أي التفكير في التفكير، وهو أحد تعريفات الفلسفة.
تلك المرة لم يطلب الإنسان الفلسفة من أجل نفسه، أو من أجل الإجابة عن أسئلته الشخصية، بل من أجل صناعة كيانٍ آخر يستعيض عنه الإنسان في أداء المهمات الشاقة والمتكررة، ولكن ما لبث أن اكتشف أن هذا الكيان عليه أن يعرف المعايير الإنسانية الصحيحة من أجل التوصل لأعلى كفاءة ممكنة، تلك المعايير التي اختلف فيها البشر طوال قرون طويلة كما اختلف حولها الفلاسفة كذلك.
ما القيم الأصح التي يجب على أنظمة الذكاء الاصطناعي اتباعها، أخلاق المنفعة العامة المعنية بتحقيق الفائدة لأكبر عدد من البشر، أم أخلاق الواجب المعنية بتطبيق القوانين الأخلاقية بشكل صارم دون اعتبار لنتائجها العملية؟
هنا يجد الإنسان نفسه مجدداً أمام الحاجة إلى الفلسفة من أجل المضي قدماً نحو مستقبل البشرية الفلسفة التي لم تمت، ولن تموت إلا بموت آخر إنسان على وجه الأرض، لكنها حقيقة لن تُعجب تامر أمين كثيراً.